آخر الزمان فى اليهودية : مراحل النهاية في الفكر الديني اليهودي

حين نتحدث عن آخر الزمان، كثيرًا ما تتجه الأنظار إلى التصورات الإسلامية أو المسيحية، وقليلا ما يتم التطرق للرؤية اليهودية لمفهوم نهاية العالم لان اليهودية اقل انتشارا بطبيعة الحال واتباعها اقل ولا يبشرون او ينشرون ابحاث كثيرة عن ديانتهم، فالرؤية اليهودية لمفهوم نهاية العالم تحمل بعدا دينيًا وفلسفيًا ترسخ عبر آلاف السنين عبر كتبهم الدينية، والتلمود، والفكر الصوفي اليهودي. في هذا المقال، سنستعرض تصور اليهودية لنهاية الزمان، كما ورد في نصوصهم المقدسة، والآراء الحاخامية، والمفاهيم الصوفية، ضمن بنية سردية دقيقة ومعززة بالمصادر.

المفهوم العام لنهاية الزمان في اليهودية

في اللغة العبرية، يُشار إلى آخر الزمان بمصطلح “אַחֲרִית הַיָּמִים” (Acharit HaYamim)، أي “أواخر الأيام”، وهو تعبير يرد في كتب الأنبياء مثل إشعياء ودانيال، ويشير إلى حقبة مستقبلية يتحقق فيها وعد الله لبني إسرائيل بالخلاص، وإقامة السلام، وعودة الملكوت.

الرؤية اليهودية تُقسم التاريخ إلى فترات، تتوج بفترة “عصر الماشيح” أو “العصر المسياني”، وهي ذروة التاريخ البشري، حيث يتحقق السلام العالمي، وتُزال المعاناة، ويُعاد بناء الهيكل الثالث في أورشليم.

في التوراة وكتب الأنبياء، نجد إشارات مبكرة إلى مفهوم النهاية. من أبرز النصوص :

  • فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا (إشعياء 11:6) — تصوير لعصر سلام مطلق.
  • سفر دانيال يقدم رؤى عن “السبعين أسبوعًا” ونهاية الشر، وقيام مملكة أبدية.
  • حزقيال في الإصحاحات 38–39 يتحدث عن معركة “جوج وماجوج”، وهي حرب مدمرة تمهد لظهور الماشيح.

التلمود وتقسيم التاريخ

يقسّم التلمود البابلي، في مواضع مثل Sanhedrin 97a، التاريخ البشري إلى ثلاث مراحل رئيسية، تمتد كل منها لألفي عام :

  • ألفايم توهو (2000 سنة من الفوضى) : وهي الفترة التي سبقت نزول التوراة، وتُوصف بالفوضى لانعدام الشريعة الإلهية المنظمة.
  • ألفايم توراه (2000 سنة من التوراة) : تبدأ من زمن إبراهيم أو موسى، وتمثل حقبة التوجيه الرباني عبر الشريعة.
  • ألفايم ييموت همشيح (2000 سنة من زمن المسيح) : يُتوقَّع فيها قدوم الماشيح وإقامة عصر الخلاص.

بعد هذه المراحل، تأتي الألفية السابعة، والتي تُشبَّه بالسبت الكوني – فترة من الراحة والسلام، كما أن السبت يتبع ستة أيام من العمل. هذا التقسيم يعكس رؤية دينية تعتبر أن التاريخ له غاية، تتدرج من الفوضى إلى الخلاص ثم الراحة الإلهية.

الماشيح : المخلّص المنتظر

يحتلّ الماشيح (أو المسيّا) موقعًا مركزيًا في عقيدة اليهودية حول نهاية الزمان. لا يُنظر إليه كشخصية أسطورية، بل كـملك بشري من نسل داود، يتصف بالحكمة والتقوى، ويُنتظر أن يؤدي دورًا حاسمًا في الخلاص النهائي.

من أبرز المهام المنسوبة إليه :

  • إعادة بناء الهيكل الثالث في القدس.
  • جمع شتات بني إسرائيل من أنحاء العالم.
  • تأسيس عصر جديد يسوده السلام، والعدل، والمعرفة الإلهية.

اراء مهمة حول هذه العقيدة عند اليهود :

  • الحاخام موسى بن ميمون (رامبام): اعتبر الإيمان بالماشيح ركنًا من أركان الإيمان الثلاثة عشر، لكنه شدد على أن هذا العصر لن يُبنى على المعجزات الخارقة، بل على التحولات الواقعية في التاريخ والمجتمع.
  • الحاخام موسى بن نحمان (ناخمانيديس) : وسّع الرؤية المسيانية لتشمل مرحلة ما بعد القيامة الجسدية، حيث يعيش البشر في حالة روحانية متقدمة، ما يشير إلى تطور زمني وروحي طويل الأمد في مفهوم الخلاص.

ما هي علامات اقتراب النهاية عند اليهود ؟

في التراث اليهودي، لا يأتي الماشيح فجأة دون مقدمات، بل يُسبق بمرحلة صاخبة تُعرف بـمخاضات الماشيح (Chevlei Mashiach)، وهي فترة من الاضطرابات والمعاناة تمهّد لعصر الخلاص.

  • تفشي الفساد والظلم.
  • انهيار القيم العائلية.
  • ظهور حروب وصراعات عالمية.
  • عودة اليهود إلى أرض الميعاد.

يُنظر إلى هذه العلامات لا كعقوبات إلهية، بل كآلام ولادة ضرورية تسبق التحوّل التاريخي الكبير. وكما يُولد النور بعد الظلام، فإن هذه المعاناة تمهّد لظهور الماشيح وبداية العصر المسياني.

معركة جوج وماجوج

من أبرز مشاهد نهاية الزمان في العقيدة اليهودية ما يُعرف بـمعركة جوج وماجوج، وهي صراع حاسم ورد ذكره في سفر حزقيال (الإصحاحات 38–39). يُصوّر النص المعركة كحرب كونية تقودها قوى الشر، ممثَّلة في “جوج من أرض ماجوج”، ضد شعب إسرائيل في أرض الميعاد.

تبلغ ذروة الأحداث عندما يتدخّل الإله بنفسه لحماية شعبه، فيُهلك جيوش جوج عبر الزلازل والوباء والنار، في مشهد يعيد التأكيد على السيادة الإلهية في التاريخ. ويُنظر إلى هذه المعركة على أنها تمهيد مباشر لعصر الماشيح، حيث يسود السلام والعدل الإلهي.

هذه الرؤية ايضا في عقائد المسلمين و ايضا بالمسيحية، ففي الإسلام، يرد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن بدون تفصيل او معلومات معقة بينما الاحاديث توسعت في هذا الجانب. اما المسيحية يُذكرون في سفر الرؤيا «وَيَخْرُجُ لِيُضِلَّ الأُمَمَ الَّذِينَ فِي أَرْبَعِ زَوَايَا الأَرْضِ: جُوجَ وَمَاجُوجَ، لِيَجْمَعَهُمْ لِلْحَرْبِ، الَّذِينَ عَدَدُهُمْ مِثْلُ رَمْلِ الْبَحْرِ.» (رؤيا 20: 8).

البعث والحياة بعد الموت

رغم أن اليهودية، بخلاف ديانات أخرى، تميل في أطوارها الأولى إلى التركيز على الحياة الدنيا والالتزام بالشريعة كوسيلة لبلوغ الرضا الإلهي، إلا أن مسألة البعث والحياة بعد الموت تشغل حيّزًا معتبرًا في الفكر اليهودي، خاصة في مراحل لاحقة من تطوره.

بحسب ما ورد في التلمود وكتابات التيار الحاخامي، يُعتقد أن البعث سيقع في العصر المسياني، حيث يُقام الموتى من قبورهم لتتم محاكمتهم. هذه الفكرة ترتبط بمفهوم “تيحيات هميتيم” (תְּחִיַּת הַמֵּתִים)، أي قيامة الموتى، وهي عقيدة يُعد الإيمان بها من المبادئ الأساسية بحسب الحاخام موسى بن ميمون (رامبام)، الذي أدرجها ضمن مبادئ الإيمان الثلاثة عشر.

ينقسم الناس في ذلك اليوم بحسب أعمالهم في الدنيا :

  • الأبرار ينالون الحياة الأبدية، حيث يعيشون في نعيم روحي في “عالم الآخرة” أو “عولام هابا” (העולם הבא).
  • الأشرار قد يُمحى ذكرهم، أو يمرّون بفترة تطهير رمزية تُعرف بـ”جهنوم”، تختلف عن التصوّرات الجحيمية في الديانات الأخرى.

وتتحدث كتابات الكابالا (الصوفية اليهودية) مثل “سفر الزوهار” عن دور الأرواح وتنقّلاتها، حيث تتجسد في الحياة الدنيا عدة مرات (جلجول النفس – تناسخ الأرواح)، إلى أن تبلغ الكمال الروحي.

ورغم الاختلاف بين التيارات اليهودية المعاصرة مثل الأرثوذكس، والمحافظين، والإصلاحيين، إلا أن الإيمان بالبعث ما يزال راسخًا في التيار الأرثوذكسي، بينما يميل الإصلاحيون إلى تأويله رمزيًا.

الكابالا ونهاية الزمن

المدارس الصوفية في اليهودية، مثل الكابالا، تقدم تفسيرًا رمزيًا لنهاية الزمان. من أبرز مفاهيمها :

  • كل حقبة تمثل سفيّرة (عنصر من عناصر شجرة الحياة).
  • ظهور الماشيح جزء من تيكون (إصلاح العالم).
  • الألفية السابعة هي اتحاد الذكر والأنثى الإلهيين، ونهاية الانفصال بين العالمين المادي والروحي.

الواقع المعاصر والتأويلات الحديثة

مع تحوّلات الواقع السياسي والديني في القرن العشرين والواحد والعشرين، أعاد العديد من المفكرين اليهود والحاخامات المعاصرين قراءة نبوءات نهاية الزمان في ضوء الأحداث الجارية. أبرز هذه التأويلات ترتبط بقيام دولة إسرائيل عام 1948، والتي رأى فيها بعض التيارات، خاصة الصهيونية الدينية، تحقيقًا عمليًا لعودة اليهود إلى أرض الميعاد، إحدى علامات “مخاضات الماشيح”.

يرى مفكرون معاصرون أن مرحلة نهاية الزمان ليست بالضرورة سلسلة من الأحداث الخارقة للطبيعة، بل يمكن فهمها كعملية تاريخية تدريجية تتجلّى في تحوّل المجتمع اليهودي نحو الروحانية، والاستقلال، والعودة إلى القيم التوراتية. أما الحركات الحريدية (اليهودية الأرثوذكسية المتشددة)، فغالبًا ما تتريث في قبول هذه التأويلات، وتؤكد أن العصر المسياني لا يمكن أن يتحقق إلا بتدخل إلهي مباشر وظهور الماشيح الحقيقي.

من جهة أخرى، استخدم بعض الباحثين في الدراسات الدينية المعاصرة مفاهيم نهاية الزمان في اليهودية كأدوات لفهم البنية الرمزية للصراع والهوية، مشيرين إلى أن هذه المفاهيم تشكل جزءًا من وعي جماعي طويل الأمد، يتجدد بتجدد الأزمات والتحولات الكبرى في العالم.

بالتالي، فإن المفهوم اليهودي لـ “أيام النهاية” لم يظل حبيس النصوص القديمة، بل ظل حيًا، يعاد تفسيره باستمرار في ضوء المستجدات السياسية، والتطورات اللاهوتية، وتغيرات الوعي الجمعي اليهودي المعاصر.

خاتمة

يقدّم التصوّر اليهودي لنهاية الزمان رؤية مركّبة تجمع بين الأمل والخوف، وبين التاريخ والأسطورة. من تقسيمات التلمود للزمن، إلى انتظار ظهور الماشيح، ومن علامات الانهيار الأخلاقي إلى معركة جوج وماجوج، تشكّلت منظومة تعكس تطلعات الشعب اليهودي للخلاص في مواجهة محنه التاريخية. وعلى الرغم من أن هذه الرؤى تنبع من سياقات دينية قديمة، إلا أن حضورها لا يزال ملموسًا في الفكر الديني والسياسي المعاصر، ما يجعل دراسة نهاية الزمان في اليهودية ضرورية لفهم أعمق لتاريخ الأديان، وللتحولات التي تعيد تشكيل العالم اليوم.

المصادر

  • التناخ (الكتاب المقدس العبري): خاصة سفر حزقيال (الإصحاحات 38–39) فيما يتعلق بجوج وماجوج، وسفر إشعياء ودانيال بخصوص نبوءات الماشيح ونهاية الزمان.
  • التلمود البابلي – رسالة Sanhedrin: وهي التي تقسم التاريخ اليهودي إلى ثلاثة عصور (الفوضى، التوراة، زمن المسيح)، وتشرح مفاهيم السبت الكوني والقيامة.
  • الحاخام موسى بن ميمون (رامبام): المرجع الأساسي في العقيدة اليهودية، لا سيما “مبادئ الإيمان الثلاثة عشر” وتفسيره لعقيدة الماشيح.
  • موسى بن نحمان (ناخمانيديس): تعليقه على التوراة وتفسيراته للعصر المسياني والقيامة الجسدية.
  • موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – عبد الوهاب المسيري: مرجع تحليلي شامل لفهم البنية الفكرية والدينية للفكر اليهودي.
  • دائرة المعارف اليهودية (Jewish Virtual Library): مصدر رقمي غني بالمراجع اليهودية التقليدية والمعاصرة، يستخدم لتوثيق قضايا مثل Chevlei Mashiach وعلامات الساعة.
  • مقالات تحليلية حديثة منشورة على مواقع أكاديمية وصحف دولية مثل : The Times of Israel، My Jewish Learning، Chabad.org
  • دراسات مقارنة الأديان : لفهم التشابه بين رؤى نهاية الزمان في اليهودية، المسيحية، والإسلام، وخاصة ما يتعلق بجوج وماجوج والمخلّص المنتظر.