برنارد لويس : المستشرق البريطاني اليهودي المثير للجدل

يُعد برنارد لويس (Bernard Lewis) واحداً من أبرز المستشرقين والمؤرخين الذين تناولوا قضايا الشرق الأوسط، وخصوصاً في العالم العربي والإسلامي من منظور غربي أكاديمي. وُلد في لندن عام 1916 وتوفي في عام 2018، وقد امتدت مسيرته الأكاديمية لأكثر من ستة عقود، ترك خلالها إرثاً فكرياً واسعاً يتراوح بين دراساته التاريخية العميقة وايضا جانب تحليلاته السياسية المثيرة للجدل.

كيف تكونت شخصية برنارد لويس وماهي مسيرته العلمية ؟

تلقى برنارد لويس تعليمه في جامعة لندن حيث تخصص في التاريخ الشرقي واللغات السامية، وتحديداً اللغة العربية والعثمانية والفارسية. أكمل دراسته في الشرق الأوسط خلال أربعينيات القرن العشرين، حيث عمل لاحقاً في وزارة الخارجية البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية كمترجم ومستشار في شؤون الشرق الأوسط. بعد الحرب، عاد إلى المجال الأكاديمي، ليشغل منصب أستاذ في جامعة لندن، قبل أن ينتقل لاحقاً إلى جامعة برنستون الأمريكية، حيث رسخ اسمه كأحد كبار الباحثين في التاريخ الإسلامي والشرق أوسطي.

رؤيته الفكرية : مابين التاريخ و السياسة :

دائما عندما نتحدث عن مستشرق ما، فلابد ان نعلم انه من اهداف الرئيسية الكتابة لبني جلدته وتعريفهم بالاخر المختلف عنهم. تميز برنارد لويس بقدرته على الربط بين التاريخ العميق للأمة الإسلامية والتحولات السياسية المعاصرة. يرى لويس أن العالم الإسلامي عاش فترة من الريادة العلمية والثقافية خلال القرون الوسطى، لكنه دخل في حالة من التراجع الحضاري منذ القرن السابع عشر نتيجة مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، أهمها الجمود الفكري، والانغلاق الثقافي، وفشل المجتمعات الإسلامية في التكيف مع الحداثة الغربية.

كما ركز في تحليلاته على موضوع العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمعات الإسلامية، مشيراً إلى أن الإسلام، على عكس المسيحية الغربية، لم يعرف فصلاً حقيقياً بين المجالين السياسي والديني، مما أدى إلى تداخل معقد بين العقيدة والسلطة.

مؤلفاته وأعماله الأساسية :

كتب برنارد لويس العديد من الكتب والمقالات التي شكلت مرجعاً هاما في دراسات الشرق الأوسط، حيث حاول الجمع بين التحليل التاريخي والرؤية النقدية للواقع السياسي والاجتماعي في العالم الإسلامي. لم تقتصر مؤلفاته على التاريخ السياسي، بل شملت موضوعات تتعلق بالثقافة والدين والعلاقات الدولية. وقد تُرجمت معظم كتبه إلى لغات متعددة، مما وسّع من تأثير أفكاره في الغرب والشرق على حد سواء.

1. الهويات المتعددة للشرق الأوسط (The Multiple Identities of the Middle East)

يحلل برنارد لويس في كتاب الهويات المتعددة للشرق الأوسط كيف أن سكان الشرق الأوسط يعيشون تحت هويات مركبة: دينية، قومية، قبلية، ومحلية، وكيف تؤثر هذه التعددية على استقرار الدول والمجتمعات. يبرز لويس في هذا الكتاب كيف أن الانقسامات الداخلية في المجتمعات الشرق أوسطية قد تكون عاملاً رئيسياً في ضعف الاستقرار السياسي والاجتماعي، كما يتناول تأثير القوى الاستعمارية في تعزيز بعض هذه الهويات على حساب أخرى.

2. أين الخطأ؟ (What Went Wrong?)

يطرح برنارد في كتابه أين الخطأ ؟ السؤال الذي لطالما شغل باله : لماذا تخلف العالم الإسلامي عن ركب الحضارة الغربية؟ ويعزو ذلك إلى التحديات التي واجهت محاولات الإصلاح والحداثة في المجتمعات الإسلامية. يناقش الكتاب محاولات التحديث التي شهدها العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر، ويسلط الضوء على أسباب فشل هذه المحاولات في تحقيق النهضة الشاملة، ويرى أن الجمود الفكري، ورفض الحداثة الغربية، وعدم القدرة على التكيف مع التغيرات العالمية، من أبرز تلك الأسباب.

3. الإيمان والقوة (Faith and Power)

يناقش برنارد لويس في كتابه الإيمان والقوة : الدين والسياسة في الشرق الأوسط العلاقة التاريخية والمعاصرة بين الدين والسياسة في الشرق الأوسط، مركزاً على الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة. يعرض لويس في هذا العمل كيف أن الدين ظل على مر العصور أداة للشرعية السياسية في العالم الإسلامي، ويحلل جذور الحركات الإسلامية الحديثة التي حاولت إعادة تأسيس نظام سياسي على أسس دينية.

4. أصول الإسماعيلية (The Origins of Ismailism)

يعتبر كتاب أصول الإسماعيلية دراسة تاريخية معمقة عن نشأة الحركة الإسماعيلية والخلفية التاريخية للدولة الفاطمية، مع إشارة إلى القرامطة وغيرها من الحركات الباطنية. يتناول لويس في هذا الكتاب الخلفيات الفكرية والاجتماعية التي مهدت لظهور الإسماعيلية، ويحلل الصراعات الفكرية والسياسية التي ميزت هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي.

5. الإسلام في التاريخ (Islam in History)

مجموعة مقالات ودراسات حول المراحل المختلفة لتطور الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية عبر العصور. يغطي عمل الإسلام في التاريخ موضوعات متنوعة تشمل ظهور الإسلام، تطور الدولة الإسلامية، الفقه، الفلسفة الإسلامية، وعلاقات المسلمين بغيرهم من الشعوب والثقافات.

إلى جانب هذه الأعمال، نشر برنارد لويس العديد من الدراسات والمقالات في مجلات أكاديمية مرموقة، وشارك في مؤتمرات دولية تناولت قضايا الهوية، الصراع السياسي، والإصلاح في الشرق الأوسط. وتظل كتاباته اليوم محل قراءة ونقد واسع في الأوساط الأكاديمية والسياسية.

أثره في السياسات الغربية

لم يكن تأثير برنارد لويس مقتصراً على الدوائر الأكاديمية، بل امتد إلى صناع القرار في الولايات المتحدة وأوروبا. كان له تأثير ملحوظ في تشكيل السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، حيث استُشهد بآرائه في العديد من المناسبات الرسمية والكتب السياسية.

كانت أطروحاته عن صراع الحضارات وفشل الإصلاح في الإسلام من أبرز المفاهيم التي استخدمها الساسة لتبرير تدخلاتهم في الشرق الأوسط، سواء على مستوى السياسة الخارجية أو الخطاب الإعلامي.

سواء اتفقت مع تحليلاته أو عارضتها، لا يمكن إنكار الأثر الكبير الذي تركه برنارد لويس في حقل الدراسات الشرق أوسطية. فقد ساهم في تعميق الفهم الغربي للتاريخ الإسلامي، لكنه في الوقت نفسه عزز بعض الصور النمطية التي يستخدمها الغرب لتفسير واقع الشرق الأوسط من منظور القوة والهيمنة.

اليوم، تظل أعمال لويس مرجعاً مهما عند الغرب لكل من يدرس تاريخ الشرق الأوسط أو يبحث في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، سواء من منظور أكاديمي أو سياسي. تبقى كتبه مصدراً للنقاش والنقد، ودليلاً على عمق التفاعل، وأحياناً الصراع، بين الحضارتين الغربية والإسلامية.

خاتمة

برنارد لويس شخصية معقدة بقدر تعقيد الموضوعات التي كتب عنها. جمع بين العمق الأكاديمي في الابحاث التاريخية وايضا الجرأة السياسية، اضافة لهذا كان له جانب كبير في التقدير الحضاري لانجازات الاخر مع النقد الحاد. ترك وراءه إرثاً فكرياً سيظل مادة للبحث والنقاش لأجيال قادمة، يثير تساؤلات حول التاريخ والهوية والدين والسياسة، وحول مستقبل العلاقة بين الشرق والغرب.

إذا كنت تحاول ان تطلع بشكل أعمق لفهم غربي لتاريخ الشرق الأوسط، أو عن جذور التوترات المعاصرة بين الإسلام والغرب، فإن قراءة أعمال برنارد لويس تعتبر بوابة لفهم هذه القضايا من زوايا متعددة، قد تتفق معها أو تختلف، لكنها بالتأكيد ستثري رؤيتك وتوسع أفقك الفكري.