
في مشهد الأدب العربي الحديث، ظهرت أسماء شابة بدأت تشق طريقها بعيدًا عن الأنماط التقليدية، ومن بين هذه الأسماء تبرز الكاتبة السعودية مريم الحيسي، التي استطاعت في سنوات قليلة أن تبني لنفسها قاعدة جماهيرية وفكرًا أدبيًا مميزًا يمزج بين الرعب النفسي، والأسئلة الوجودية، والحس الإنساني العميق. في هذه المقالة المفصلة، سنتناول بالتفصيل حياة مريم الحيسي الأدبية، وأسلوبها، وتأثيرها على القراء، مع تحليل شامل لثلاثة من أبرز أعمالها: بيتشيني، أكتب حتى لا يأكلني الشيطان، وإنني أتعفن رعبًا.
نبذة عن مريم الحيسي :
مريم الحيسي هي كاتبة سعودية معاصرة، دخلت عالم الكتابة من بوابة الروايات القصيرة والمكثفة التي تمزج بين الواقع النفسي والرمزية الأدبية. لم تصرّح الكاتبة بالكثير من تفاصيل حياتها الخاصة، مما جعل حضورها الأدبي أقوى من أي هوية شخصية، ويعطي انطباعًا بأنها تفضل أن تعبّر عن ذاتها من خلال النصوص، لا الصور أو المقابلات. تميل كتابات مريم إلى الغوص في زوايا مظلمة من النفس البشرية، واستكشاف المعاناة، العزلة، الرغبات المكبوتة، والتجارب المؤلمة، بأسلوب أدبي سلس لكنه يترك أثرًا عميقًا. وغالبًا ما يصفها قراؤها بأنها “تكتب كأنها تنتزع الكلمات من قلب القارئ”.
أبرز أعمالها وتحليلها :
رواية بيتشيني :

“بيتشيني” هي واحدة من أكثر الروايات إثارة للجدل في أعمال الحيسي، وتحمل اسمًا يرمز إلى عالم غير مألوف. تدور الرواية حول فتاة تعاني من اضطرابات نفسية عميقة، وتعيش في عالم داخلي غريب ومتشظٍ. تبدأ القصة من لحظة سكون ظاهر، لكنها تتصاعد بسرعة إلى هاوية من الكوابيس والهلاوس والتأملات السوداوية.
الشخصية الرئيسية (الراوية) تعيش في صراع مستمر بين ما تراه وما تتخيله، بين الرغبة في الحياة والخوف منها. هناك شخصيات أخرى تظهر وتختفي، كأنها أشباح أو صور ذهنية، مما يعكس مدى اضطرابها النفسي.
تمتاز الرواية بلغتها الشعرية والانسيابية، مع جمل قصيرة ومكثفة تحمل طبقات متعددة من المعنى. تستخدم الكاتبة رموزًا ثقافية ودينية ونفسية بشكل غير مباشر، ما يجعل القارئ يعيد التفكير في كل فقرة.
رواية أكتب حتى لا يأكلني الشيطان :

عنوان الرواية وحده كافٍ لجذب الانتباه، ويعكس الجو العام للكتاب: الكتابة كفعل مقاومة للخوف الداخلي. الرواية تنتمي إلى أدب الرعب الوجودي، حيث تسرد قصة فتاة تعاني من عزلة طويلة، وتلجأ إلى الكتابة لإنقاذ نفسها من الهواجس التي تكاد تفتك بها.
تدور الأحداث في منزل واحد، غرفة واحدة، وذاكرة واحدة. البطلة تكتب في دفتر أحمر، بينما يتربص بها مخلوق غريب – الشيطان الذي يرمز إلى الاكتئاب أو الجنون أو الخوف نفسه. بين كل صفحة وأخرى، نكتشف المزيد من ماضيها، أوجاعها، وخساراتها. الرواية ليست فقط عن الرعب، بل عن الصراع الداخلي الذي يخوضه الإنسان مع ماضيه. الرمزية هنا واضحة، لكن مريم تستخدمها بحذر، دون أن تقع في فخ المباشرة.
رواية إنني أتعفن رعبًا :

رواية قصيرة مكثفة ومزعجة نفسيًا، لكن هذا ما يجعلها استثنائية. تبدأ الرواية من جملة قاتلة: “استيقظت اليوم وأنا أشم رائحة تعفن في صدري”. ومن هذه اللحظة يدخل القارئ عالمًا من الهلوسات، التحلل النفسي والجسدي، والكوابيس الحية.
تتناول الرواية التحلل البطيء للذات. ليس بمعناه الجسدي فقط، بل الروحي والعقلي. البطلة تشعر بأنها تذوب وتتحلل حرفيًا، بينما من حولها يتجاهلون أو لا يفهمون ما يحدث لها. مشاعر العجز، القلق، والتخلي تحيط بها. لغة الرواية عنيفة، موجعة، ومباشرة أحيانًا. لا تتردد مريم الحيسي في تقديم مشاهد قاسية نفسيًا، مما يجعل الرواية غير مريحة، لكنها ضرورية.
أسلوب مميز ومواضيع جريئة
الذي يميز مريم الحيسي عن كثير من الكاتبات في جيلها هو امتلاكها بصمة لغوية خاصة، يصعب تقليدها أو تصنيفها ضمن تيار أدبي واحد. تتأرجح نصوصها بين النثر الشعري والرواية النفسية، وتُكتب بجرأة تكاد تلامس المحرمات، ولكن بأسلوب غامض وغير فاضح، يجعل القارئ يشعر بشيء ثقيل يتحرك داخله دون أن يراه بوضوح.
لغة تنبض بالانكسار والقوة في آن
الجمل في كتابات الحيسي قصيرة، لكن ليست ساذجة. بل هي مكثفة بالمعاني والدلالات النفسية. تستخدم لغة التصوير الداخلي، لا الخارجي، فبدلاً من أن تصف المكان، تصف ما يحدث في داخل الشخصية حين تتواجد في ذلك المكان. وهي بارعة في خلق جمل تُقرأ مرارًا، ليس لأنها غامضة فقط، بل لأنها صادمة دون أن تصرخ. “أكتب كي لا يلتهمني الجنون، لا لأنجو، بل لأحفظ شكل الرعب حين يتنكر في هيئة بشر.”
الكتابة عن المسكوت عنه
تعالج مريم الحيسي قضايا مُغيّبة تمامًا عن السرد النسائي الخليجي، مثل:
الرغبة المكبوتة, التفسخ الداخلي للذات, علاقة الجسد بالذنب والهوية, الانتحار كفكرة وليس كحدث, فقدان الاتصال بالواقع والجنون التدريجي, هذه المواضيع لا تقدمها على طبق من ذهب أو بأسلوب دعائي. بل تُعرّي القارئ وتتركه وحيدًا مع النص، دون شرح أو تبسيط، ما يخلق تجربة قراءة شخصية جدًا، وخطيرة أحيانًا.
تقنيات السرد الحلمي
تعتمد الكاتبة كثيرًا على ما يمكن وصفه بـ السرد الكابوسي، حيث تتداخل مشاهد من الماضي والواقع والمخيلة في نسيج واحد يصعب فصله. هذا يجعل الروايات شبيهة بـ”كابوس جميل”، لا نريد الاستيقاظ منه رغم الخوف. كثير من شخصياتها لا نعرف أسمائها، أو لا نعرف أين تنتهي حدود عقلها وأين يبدأ العالم من حولها.
الجرأة النفسية لا الجسدية
رغم أن الروايات تحوم حول الجسد، الألم، والرغبة، إلا أن مريم لا تسقط في فخ الابتذال. جرأتها ليست جنسية، بل وجودية ونفسية. هي تكتب عن الفجوة التي تنشأ بين الإنسان ونفسه، عن الكوابيس التي لا تُقال، وعن الصمت الذي يكون أحيانًا أفظع من الصراخ.
العمق دون تعقيد
أعمالها ليست سهلة، لكنها ليست متعالية كذلك. تستخدم الرمزية، لكن ليس بطريقة غامضة تهرب من الفهم. بل تترك للقارئ هامشًا كبيرًا للتأويل الشخصي، لأن الهدف ليس الفهم الكامل، بل الإحساس الكامل. وهذا هو سرّ أسلوبها الحقيقي: أن تجعل النص يعيش في القارئ، لا العكس.
اخيرا في عالم أدبي تكثر فيه الأصوات المتشابهة، تُعد مريم الحيسي استثناءً يُحسب له ألف حساب. ليست فقط لأنها تتناول موضوعات قلّما يُسلّط عليها الضوء في الأدب العربي، بل لأنها تفعل ذلك من قلب التجربة الإنسانية، لا من خارجها. كتاباتها لا تكتفي بأن تروينا قصة، بل تُحدث شرخًا في وعينا، تجعلنا نواجه أنفسنا ونراجع مسلماتنا حول الألم، والخوف، والوحدة، والنجاة. إن أسلوبها المتفرّد في الغوص في النفس البشرية، وطرحها لمواضيع شائكة بحس فني راقٍ، يضعها في مكانة خاصة بين الأصوات الأدبية الصاعدة في الخليج والعالم العربي. مريم الحيسي لا تسعى لأن تُدهشنا، بل لأن توقظ شيئًا نائمًا فينا، شيء قديم، لكنه حي. وكأنها تقول: “أنا لا أكتب لترتاح، بل لتتذكّر أن ثمة ألمًا لم تعالجه بعد.” ولعلّ هذا ما يجعل أعمالها تبقى، وتُعاد قراءتها، وتترك أثرًا لا يُمحى في الوجدان.