حين يُذكر أدب الرعب عالميًا، تتجه الأذهان فورًا إلى أسماء صنعت هالات أسطورية حول نفسها: ستيفن كينغ بمدنه الصغيرة الملعونة، إدغار آلان بو بقصصه المظلمة التي تغوص في أعماق النفس البشرية، وبراون ستوكر بمصاصي دمه الذين صاروا رمزًا ثقافيًا خالدًا. هؤلاء هم سحرة الظلال الذين حوّلوا الخوف إلى فن راقٍ. لكن، هل كتب القدر أن يظل الرعب فنًا غربيًا محضًا؟
هناك عدة كتاب عرب حاولوا أن يضعوا بصمتهم في أدب الرعب، فنسج كلٌّ منهم طريقته الخاصة في استحضار الخوف وصياغة الماورائيات. لكن، في قلب هذا المشهد، ووسط أزقة عاصمة مصر القاهرة، وُلد صوت مختلف. صوت شاب قرر أن يمنح الرعب هوية لا تقل سحرًا ولا عمقًا عن نظيراتها الغربية. ذلك الصوت هو حسن الجندي، الذي لم يكتفِ بكتابة قصص مخيفة، بل شيّد عالمًا كاملًا من الأساطير المحلية والكوابيس الماورائية التي تشبع ذوق القارئ وتعيد تعريف الخوف ذاته.
بدايات حسن الجندي

نشأ حسن الجندي في بيئة تعج بالحكايات الشعبية والأساطير المتناقلة بين الأجيال. في صغره، لم يكن يكتفي بسماع قصص الجن والعفاريت، بل كان يتساءل عن حقيقتها: ماذا لو كانت تلك الكائنات أكثر تعقيدًا مما يرويه التراث؟ هذا الفضول الطفولي تحوّل لاحقًا إلى مشروع أدبي ناضج.
بدأ مشواره عبر كتابة قصص قصيرة ونشرها في المنتديات الإلكترونية. من أبرز هذه البدايات مجموعتا “اعذريني ومخاوف أخرى” و”حصاد الشيطان” (2009)، اللتان كشفتا عن موهبة صاعدة تعرف الكتابة باسلوب تشويقي ورمزي رغم بساطة الأدوات حينها. كانت هذه الأعمال أشبه بـ”مختبر سردي”، جرب فيه بناء العوالم المغلقة، قبل أن ينتقل إلى الرواية الطويلة التي منحته شهرته الحقيقية.
ثلاثية مخطوطة ابن إسحاق
حين أصدر حسن الجندي ثلاثيته الشهيرة مخطوطة ابن إسحاق، لم يكن القارئ العربي معتادًا على رعب يمتد عبر ثلاثة أجزاء مترابطة، تجمع بين الواقعية المصرية الصارخة والماورائيات المظلمة.
- مدينة الموتى: الجزء الأول الذي تدور أحداثه حول شاب يعثر على مخطوطات غامضة في سور الأزبكية، فتفتح أمامه أبواب عالم مخيف يختلط فيه التاريخ بالخرافة. تميز هذا الجزء بقدرته على تحويل أماكن مألوفة (المقابر، الأزقة، المكتبات) إلى مسارح للرعب.
- المرتد: يوسع الجندي في هذا الجزء نطاق القصة، فيكشف جانبًا أعمق من عالم المخطوطات ويُظهر الصراع بين الإنسان وهذه القوى الخفية بشكل أوضح. يميل السرد هنا إلى بعد فلسفي بسيط، حيث تبدأ الشخصيات في التساؤل عن معنى ما تواجهه ودوافعه.
- العائد: الخاتمة التي تعيد ترتيب الأحداث وتربط الخيوط السابقة، ليصبح الرعب ليس مجرد تهديد خارجي، بل تجربة داخلية تكشف ما يمكن أن يفعله الخوف بالإنسان عندما يواجه حدوده النفسية.
قدمت هذه الثلاثية تجربة مختلفة في أدب الرعب العربي، إذ نجحت في بناء عالم متماسك له قواعده وشخصياته الخاصة. ومع الوقت، أصبحت القصة مألوفة لدى القراء لدرجة أن بعضهم يتحدث عنها وكأنها عالم حقيقي مستقل، وليس مجرد عمل خيالي.
سلسلة ليلة في جهنم
أعلن المؤلف أن سلسلة ليلة في جهنم مكونة من سبعة أجزاء، صدرت حتى الآن ثلاثة أجزاء من سلسلة ليلة في جهنم، وهي: منزل أبو خطوة (الجزء الأول)، ثم الرصد (الجزء الثاني)، وأخيرًا أيام مع الباشا (الجزء الثالث).
منزل أبو خطوة – الجزء الأول
صدر في مطلع عام 2017، ويدور حول منزل مهجور في منطقة القناطر (أبو خطوة) شهد حدث مروع: مذبحة جماعية لعائلة كاملة داخل المنزل، دون نجاة أحد. ومنذ سنوات، ارتبط باسم المنزل بأساطير محلية وسر غامض لم يُكشف بالكامل. عاشقة الصحافة “صفاء الباجوري” تتولى التحقيق، فتقع هي وأصدقاؤها في أحداث لا تُفسَّر بسهولة، مقابل شخصية “جعفر” المدرك لعالم الجن الذي يقود القصة نحو بيئة مرعبة تسودها قوة خفية تتحكم بوسائط مغلقة.
الرصد – الجزء الثاني
نُشر هذا الجزء عام 2018 عن دارك للنشر، ويستكمل أحداث المنزل نفسه. الراوي يكشف أن جزءًا كبيرًا من الأحداث حادث فعليًا كما رواها. تزداد الألغاز، وتطرح أسئلة عن طبيعة القوى المسيطرة داخل المنزل، وتتفكك الحقيقة تدريجيًا أمام القارئ وسط قلق دائم من أن شيء في هذا العالم ليس كما يبدو.
أيام مع الباشا – الجزء الثالث
هو أحدث الأجزاء الثلاثة، وفيه يتواصل الرعب، يجد القارئ نفسه امام شخصية مرعبة وهو الباشا بحيث هذه الشخصية تحمل في داخلها رمزية كبيرة، ما بين سلطة الماضي وسطوة التاريخ التي تتحكم في الحاضر، تدور احداث هذا الجزء في اطار نفسي رعب وتتكشف الاسرار والصراعات المرعبة بين قوى بشرية واخرى غامضة تتجاوز الفهم.
تُعد سلسلة ليلة في جهنم من أكثر سلاسل الرعب تشويقا ومتابعة بين القراء كونها قائمة على أقاصيص حقيقية في جزء منها، وتستخدم عناصر أسطورية محلية. أسلوب كتابة الجندي يعتمد على لغة بسيطة وتوتر تدريجي يجعل القارئ يعيش الرعب داخل التفاصيل اليومية.
رغم تعدّد المراجعات، يرى بعض القراء أن الجزء الثاني كان الأفضل، بينما اعتُبرت النهاية في الجزء الثالث أقل تحكّماً في ربط الخيوط، لكنها كانت نهاية معقولة إلى حد ما.
روايات اخرى لحسن الجندي
حسن الجندي ليس فقط كاتبًا للرعب، بل صانع لعوالم متشعبة ما بين تحليل النفس البشرية وأبعاد الخيال والغموض. أعماله تتنوع بين الروايات النفسية والخيال العلمي، مرورًا بالسرد القريب من التراث العربي، مما يجعل قراءته تجربة فريدة تمزج بين الخوف والتفكير العميق.
- الجزار: رواية نفسية عن قاتل متسلسل، لكنها ليست قصة جريمة تقليدية، بل رحلة إلى أعماق عقل مشوه تحركه ضغوط المجتمع وتناقضاته.
- ابتسم فأنت ميت: واحدة من أكثر رواياته شهرة، تدور حول شقة قديمة في قلب القاهرة، تحولت إلى بوابة للماضي الدموي والكوابيس العالقة. هنا، استخدم الجندي السخرية السوداء ليزيد من حدة الرعب.
- نصف ميت دفن حيًا: عمل يمزج بين الفانتازيا والخيال العلمي، ويطرح سؤالًا ميتافيزيقيًا عن الحدود بين الحياة والموت.
- نوح المذبوح: رواية تتناول مأساة رجل فقد كل شيء، وتحوّلت حياته إلى كابوس متواصل. من خلال شخصية نوح، يستعرض الجندي الصراعات الداخلية والذكريات المظلمة التي لا تترك مكانًا للراحة.
- حكايات فرغلي المستكاوي: مجموعة قصص قصيرة تجمع بين السخرية والغرابة، تسبر أغوار المجتمع المصري بأسلوب ساخر ومليء بالمفاجآت. في هذه الحكايات، يبرع الجندي في رسم صورة اجتماعية نقدية مخفية خلف عباءة الغموض والرعب.
بالإضافة إلى هذه الأعمال، لدى حسن الجندي مجموعة اخرى من الروايات والقصص التي تحمل توقيعه الخاص، وتؤكد اهتمامه بصنع عوالم وقصص رعب بعدة سيناريوهات مختلفة.
في النهاية، يظل حسن الجندي صوتًا بارزا في سماء أدب الرعب العربي، ليس فقط بقدرته على نسج قصص مخيفة، بل بمهارته في تقديم رؤى إنسانية واجتماعية عميقة خلف ظلال الرعب. أعماله، من ثلاثية مخطوطة ابن إسحاق إلى سلسلة ليلة في جهنم، مرورًا بروايات مثل الجزار وابتسم فأنت ميت ونوح المذبوح، وحتى مجموعات القصص القصيرة مثل حكايات فرغلي المستكاوي، تعكس تنوعًا في التجربة وأساليب السرد، تجعل القارئ يفكر بقدر ما ترتجف أعصابه.
هذا المزيج بين الرعب والفكر، بين الخوف والتأمل، هو ما يمنح حسن الجندي مكانة مميزة تضعه من بين أبرز الكتاب العرب الذين أعطوا لمسة رائعة لادب الرعب، وجعلوا منه تجربة لا تنسى، قادرة على مواكبة التطورات الأدبية العالمية دون أن تفقد جذورها المحلية. وبالتأكيد، لا تزال لديه المزيد ليقدمه في هذا المجال، مما يجعل متابعته أمرًا يستحقه كل من يهتم بأدب الرعب المتميز.