من هي هان كانغ؟

في السنوات الأخيرة، بدأت أنظار العالم تتجه إلى الأدب الكوري، لا بفضل الشعبية المتزايدة للثقافة الكورية فحسب، بل أيضًا بفضل كُتّاب مبدعين تركوا بصمة إنسانية وأدبية لا تُنسى. في طليعتهم تأتي الكاتبة هان كانغ (Han Kang)، التي اشتهرت بأسلوبها الفريد في استكشاف الجسد، الألم، الهوية، والذاكرة.

هان كانغ لا تكتب قصصًا تقليدية، بل تقدم تجارب إنسانية عميقة، تتحدى القارئ وتترك فيه أثرًا نفسيًا طويل الأمد. في هذا المقال، نغوص في عوالم ثلاثٍ من أبرز رواياتها: “النباتية”، “أفعال بشرية”، و“الكتاب الأبيض”، لنفهم كيف استطاعت أن تجعل من الصمت لغة، ومن الألم فلسفة.

هان كانغ وُلدت في مدينة غوانغجو بكوريا الجنوبية عام 1970، وهي ابنة الكاتب المعروف هان سونغ وون. بدأت مسيرتها الأدبية كشاعرة، ثم تحولت إلى الرواية، حيث وجدت مساحة أوسع لاستكشاف القضايا النفسية والإنسانية التي تهمها.

حصلت على جائزة مان بوكر العالمية عام 2016 عن رواية “النباتية”، لتصبح أول كاتبة كورية تفوز بها، وهو ما وضعها تحت الأضواء العالمية وساعرض عليكم ثلاتة اعمال اشتهرت بهم الكاتبة في الساحة العالمية…

النباتية – الجسد كرفض للعنف

تدور أحداث الرواية حول امرأة كورية تدعى “يونغ هاي”، التي تقرر فجأة التوقف عن أكل اللحوم بعد حلم مزعج عن الدم والعنف. قرارها البسيط يقابل برفض قاسٍ من المجتمع والأسرة، وتبدأ رحلة الرفض والتحول الجسدي والروحي، في سرد يُروى من ثلاث وجهات نظر: الزوج، صهرها، وأختها.

“النباتية” ليست رواية عن النباتية فعلاً، بل عن الرفض الصامت للمجتمع الذكوري والعنيف. يرمز الجسد هنا إلى المساحة الوحيدة التي تستطيع البطلة التحكم بها. الصمت الذي تعيش فيه “يونغ هاي” يصبح أكثر صخبًا من أي خطاب.

هان كانغ لا تقدم إجابات، بل تثير الأسئلة:

هل الجسد ملكٌ لنا أم للمجتمع؟

هل يمكن للصمت أن يكون شكلاً من أشكال المقاومة؟

وما ثمن الانسلاخ عن ما هو “طبيعي” في نظر الآخرين؟

لأنها تسلط الضوء على المرأة المعزولة والمقهورة دون اللجوء إلى الدراما الصريحة. بأسلوب شاعري، تصدمك هان كانغ، وتجعلك تتعاطف، ثم تتأمل في معنى “الحرية الجسدية”.

أفعال بشرية – عندما يصبح الموت نصًا سياسيًا

تستند الرواية إلى أحداث مجزرة غوانغجو 1980، حيث قامت الحكومة الكورية بقمع مظاهرات طلابية بطريقة دموية. تتبع الرواية مصير شاب قُتل أثناء هذه الأحداث، ومن خلال عدة شخصيات مرتبطة به، ترسم صورة مؤلمة عن العنف السياسي، وكيف يترك أثره في الأحياء والأموات على حدٍ سواء.

في “أفعال بشرية”، تُقدّم هان كانغ نصًا سياسيًا لكنه شخصي بامتياز. العنف هنا لا يُروى عبر أرقام، بل من خلال جسد متحلل، أم تبكي، وناجين لا يستطيعون الحديث.

اللغة صامتة لكنها مشبعة بالشعور بالذنب، العار، والغضب. إنها رواية عن كيف يحاول الإنسان تذكّر ما لا يُحتمل تذكّره، وكيف تُصبح كتابة التاريخ شكلًا من أشكال المقاومة.

لأنها تُحوّل حدثًا سياسيًا إلى تجربة إنسانية، وتُظهر كيف يمكن للأدب أن يكون أرشيفًا للوجع الجماعي، وشهادة لا يمكن محوها.

الكتاب الأبيض – عندما تصبح الكتابة حدادًا

يُعتبر “الكتاب الأبيض” أقرب إلى تأملات أدبية منه إلى رواية تقليدية. تكتب فيه هان كانغ عن أختٍ وُلدت ميتة قبل أن تراها، ومن خلال الأشياء البيضاء – كالثلج، الحليب، القماش – تبدأ في كتابة رثاء صامت عن الفقد والغياب.

الكتاب مليء بالمساحات البيضاء، مثل تلك التي تتركها الحزن في النفس. لا حكاية فعلية هنا، بل مشاهد وتأملات ولغة بصرية. الأبيض لا يُمثل النقاء فقط، بل الهشاشة، الذكرى، وربما الغياب التام.

لأنه كتابٌ عن الكتابة نفسها، عن العجز عن القول، وعن الألم الذي يتخذ شكلاً جماليًا. بأسلوب بسيط لكنه مؤثر، تقدم هان كانغ نصًا قادرًا على ملامسة أعمق زوايا الفقد.

لأنها لا تكتب لتسلية القارئ، بل لإزعاجه بأسئلة وجودية، ولتذكيره بأن الأدب أداة مقاومة، صوت للضعفاء، ومرآة للألم المكبوت. في عالمٍ يُسرع نحو الاستهلاك والنسيان، تأتي كتابات هان كانغ لتُبطئنا، لتُرغمنا على التحديق في جراحنا، لا لنبكي، بل لنفهم.

رواياتها لا تُقرأ مرة واحدة، بل تعيش مع القارئ طويلاً. سواءً كانت تتحدث عن جسدٍ يرفض اللحم، أو مراهق قُتل في مظاهرة، أو أختٍ لم تولد، تظل هان كانغ تكتب عن ما لا يُقال، وتمنح للغة صمتًا أعمق من أي ضجيج.