
يُعد كتاب مفترق الطرق اليهودية ونقد الصهيونية للفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر واحدًا من أكثر الكتب إثارة للجدل في الخطاب الفلسفي والسياسي المعاصر. لا يكتفي هذا العمل بالنقد السياسي للمشروع الصهيوني، بل يسعى أيضًا إلى إعادة التفكير في ما تعنيه “اليهودية” في عالم يتشابك فيه الدين بالهوية، والسياسة بالذاكرة، والعدالة بالخوف. تنتمي بتلر إلى تيار من المفكرين اليهود الذين يرفضون اختزال اليهودية في بعدها القومي أو السياسي، وتسعى من خلال هذا الكتاب إلى كشف التوتر الأخلاقي والفلسفي بين الالتزام بالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان، والانتماء لجماعة تُمارس في بعض تمثلاتها السياسية أشكالًا من العنف والإقصاء.
اليهودية كإرث أخلاقي لا كهوية قومية :
في الفقرة الأولى من كتابها، تمهد جوديث بتلر لسؤال مركزي: ما الذي تعنيه اليهودية خارج إطار الصهيونية؟ من هذا السؤال تنطلق نحو تفكيك علاقة طويلة ومعقدة بين الدين والسياسة، بين التاريخ الشخصي والجمعي، وبين الإيمان كقيمة روحية والمواطنة كهوية قومية. فهي لا تنكر انتماءها لليهودية، بل تسعى لأن تُعيد لهذا الانتماء معناه الأصلي المرتبط بمفاهيم العدالة والرحمة والغيرية، كما ظهرت في نصوص دينية وتقاليد فكرية لم تكن يومًا متواطئة مع الاستعمار أو التمييز. تستدعي بتلر مفكرين يهود كبار مثل حنة أرندت، وإيمانويل ليفيناس، وفرانز روزنتسفايغ، لتؤكد أن هناك داخل التراث اليهودي ما يمكن اعتباره أساسًا فلسفيًا لأخلاق تتجاوز حدود الانتماء القومي، بل تتعارض معه حين يتحول إلى أداة للهيمنة. بتلر لا تقدم أطروحتها في فراغ، بل في مواجهة مباشرة مع الهيمنة الثقافية التي تسعى إلى فرض تعريف موحَّد لليهودي، مقترن بالولاء لإسرائيل، ما يجعل أي نقد لهذا الكيان مشبوهًا أو معاديًا للسامية. وهنا تكمن جذرية مشروعها: فهي تطالب بحق اليهودي في أن يكون ضد الصهيونية، دون أن يُسقط عنه هذا الموقف حقه في الانتماء للهوية اليهودية ذاتها.
نقد الصهيونية كعنف بنيوي مغلّف بالذاكرة :
تعالج بتلر في هذا الكتاب العلاقة بين الصهيونية والذاكرة، وتطرح فكرة أن المشروع الصهيوني قد استثمر بذكاء في المأساة اليهودية الكبرى — الهولوكوست — لتحصين نفسه أخلاقيًا وسياسيًا من أي نقد، وذلك عبر تأطير إسرائيل كدولة ضحية إلى الأبد، وبالتالي ككيان لا يمكن انتقاده دون السقوط في فخ معاداة السامية. لكن بتلر تفضح هذا المنطق، وتراه محاولة لتجميد التاريخ وتحويل الألم إلى ترخيص دائم بممارسة العنف على الآخر الفلسطيني. الصهيونية، في تصورها، ليست فقط مشروعًا قوميًّا، بل هي بنية عنف مؤسساتية، تتغلغل في الإعلام والتعليم والسياسات الأمنية، وتعيد إنتاج الخوف ليكون مبررًا للبقاء والهيمنة. وهي ترى أن هذا النموذج من الدول القومية — المبني على التفوق الإثني والديني — لا يمكن أن ينتج سوى شكلٍ من أشكال الفصل العنصري، حتى لو تَلفّظ بخطاب ديمقراطي. ترى بتلر أن التوظيف الصهيوني للذاكرة يُعيد إنتاج اللاعدالة، لأنه يبرر الطرد، والهدم، والقتل، باسم البقاء. لذا فهي تدعو إلى إعادة التفكير في الهوية اليهودية كمشروع مفتوح، لا كحصن سياسي مسلح، والانفتاح على صيغ أكثر عدلًا وتعددًا للتعايش المشترك.
نحو يهودية كونية تنفتح على الآخر الفلسطيني :
في ختام كتابها، لا تكتفي بتلر بالنقد، بل تفتح أفقًا بديلًا لما يمكن أن تكون عليه الهوية اليهودية إذا ما تحررت من قبضة القومية والسياسات الأمنية. هي تدعو إلى شكل جديد من الانتماء الديني والثقافي، مبني على القيم الكونية للمسؤولية، الضيافة، والاعتراف بالآخر. الآخر هنا ليس فقط الفلسطيني، بل كل من تم إقصاؤه من داخل المنظومة السياسية الصهيونية. وهي تطرح تصورًا ليهودية غير قومية، بل تعددية وتحررية، تستعيد صوتًا طالما تم إسقاطه أو إسكاته في الخطاب الإسرائيلي الرسمي. هذا التصور لا يعني التخلي عن الهوية، بل تحريرها من تحالفها مع السلطة، وفتحها على أشكال جديدة من العيش الأخلاقي والسياسي. كما تدعو بتلر إلى بناء تحالفات بين اليهود وغير اليهود، خصوصًا في دوائر النضال من أجل العدالة، لأن أخلاقيات التضامن لا يجب أن تُبنى على التشابه، بل على الاعتراف بالمعاناة والمشترك الإنساني. في هذا الإطار، يصبح الكتاب نداءً من داخل اليهودية إلى اليهودية، للعودة إلى قيمها الأعمق قبل أن تبتلعها السلطة، وليكون للعدالة مكان داخل ما تبقى من سردية متعبة عن الخوف والخلاص.
خاتمة
“مفترق الطرق اليهودية ونقد الصهيونية” ليس مجرد نقد سياسي للصهيونية أو دفاع عن القضية الفلسطينية، بل هو عمل فلسفي يزعزع البديهيات ويعيد رسم حدود النقاش حول الهوية والانتماء والمعنى. بتلر لا تكتب من موقع خارجي، بل من قلب الإشكال، وهو ما يجعل مشروعها أكثر جرأة وشرعية في آن. إنه كتاب يبحث عن احتمال أخلاقي جديد، في عالم يغرق في الانغلاق القومي والعداوات المختلقة، ويقترح مسارًا بديلاً يؤمن بأن الدين والثقافة يمكن أن يكونا بوابتين نحو التحرر، لا سلاسل جديدة للقهر.